بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على النّبيّ الكريم
صاحب الشريعة الخالدة إلى يوم الدّين
*****
الشعب التونسي المسلم
لقد كرّمك الله تعالى بالإسلام مذ هداك إليه بدخوله هذه البلاد، وحرّرك من خُرافات الوثنية واضطهاد المحتلّين من اليونان والرومان، ووضع عنك أغلال الشرائع الفاسدة التي وضعتها أهواء الحكّام، وشرّفك بأن حمّلك أمانة نشر الإسلام في بلاد المغرب والأندلس وأبواب أوروبا، فعشت وعاشت شعوب هذه البلدان في ظلال شريعته تنعم بصفاء العقيدة وعدالة الشريعة وزكاء النفس.
فأنت أيها التونسي المسلم حريّ بأن تتذكّر ما تقرأه في الوحي المنزّل إلى النّاس جميعا:
ـ أنّ التحليل والتحريم من شأن الله تعالى، القائل «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ» (النحل: 116)، وأنّه تعالى خصّ هذه الأمّة بشريعة تميّزها عن غيرها من الأمم، قال تعالى «وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً» (المائدة: 48).
ـ أنّ حقيقة الإسلام أن تُسلم لربّ العالمين وتُذعن لأحكامه وتقبل ما شرَّعه لك دون اعتراض قال الله تعالى «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ …» (الأحزاب:36)
ـ أنّ الله تعالى لم يترك النّاس وشؤونهم يديرونها كيفما شاؤوا، بل من رحمته بهم أن شرع لهم ما ينظّمون به حياتهم، حتّى لا تتحكّم أهواء طبقة على أخرى، ولا يطغى بعضهم على بعض، ولا يستبدّ الأقوياء على الضعفاء.
ـ أنّ لله تعالى حِكَمًا فيما شرَع لعباده، قد لا يدركها الإنسان، ولكنّ إيمانه بالله تعالى صاحب العلم المطلق والحكمة البالغة يجعله يثق فيما يأمره به خالقه وما ينهاه عنه، ويُقبِل على الامتثال طائعا له، قال تعالى في خاتمة أحكام تتعلق بالمرأة «ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (البقرة:232)
ولذا، فإنّ مسألتي الميراث ومنع زواج المسلمة من الكافر حكمان شرعيان ثابتان في شريعة الإسلام لا يدخلان في مجال الاجتهاد البشري، فالميراث فريضة شرَعها الله تعالى لعباده، وبيّن أنّها لا تخضع للأهواء والعواطف البشرية، ولا يلحقها نقص أو جور، لصدورها عن عليم حكيم، قال تعالى «آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» (النساء: 11)
وقال في خاتمة آيات الميراث مبيّنا أنّها حدود الله تعالى لا يحقّ لمن يرى نفسه مؤمنا أن يتجاوزها « تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ … » (النساء:13/14) وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مبيّنا أنّ قسمة المواريث قد استأثر الله تعالى بها: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ” الترمذي
دفع شبهة عدم المساواة بين الجنسين:
للعلم فانّ التّساوي في الأحكام والحقوق بين المكلّفين أصل دلّت عليه النّصوص الشرعية، وناطت به الأحكام والحقوق، فلا فرق بين المسلمين باللون أو الجنس أو بالذكورة والأنوثة، فالبنت والابن يستويان في الحقوق المدنية، وفي حقوق النسب، والرّضاع، والنفقة، والاستحقاق من مال التركة، والزوجان يشتركان في الرّعاية، وفي التشاور في الرضاع، ولكن قد يتخلّف هذا الأصل لمراعاة مصلحة أرجح يعلمها الله تعالى، والقول بأنّ أحكام الشريعة لم تعدل بين الجنسين في الميراث، إذ مكّنت الرّجل من ضعف المرأة دعوى عارية عن الدليل، لأن النُّصوص تبيّن خلاف ذلك، فالتفاوت في الفروض لم يراع فيه الفرق بالأنوثة والذكورة، بدليل أن القرآن الكريم سوّى بين الأبوين في المقدار «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ» (النساء:11) ،وساوى بين الإخوة للأم ذكورا وإناثا « وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ» (النساء:12)، وقد يزيد حظ الأنثى على حظ الذكر مثل البنت مع الجدّ « وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ» (النساء: 11 )
وأما توريث الرجل ابنا وزوجا ضعف المرأة بنتا وزوجة، فقد روعي فيه قاعدة “الغنم بالغرم”، فإن الرجل مكلّف بإعالة نفسه متى بلغ سنّ الرشد، وبدفع المهر لزوجه، والإنفاق عليها، وعلى أبنائها، والعدل يقتضي ألاّ نسوّي بينهما في الحقوق اذ الواجبات بينهما متفاوتة.
وأمّا منع زواج المسلمة من الكافر فهو أيضا حكم شرعيّ ثابت بالقرآن الكريم، قال تعالى « وَلَا تَنكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُو إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِۦ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (البقرة: 221).
فالآية صريحة في تحريم زواج المسلم والمسلمة من أهل الشرك، واليهود والنّصارى عند كثير من أهل العلم معدودون من المشركين، إذ لفظ الشرك عندهم عامّ غير خاصّ بالوثنيين، وقد استثنى القرآن في الآية (5) من سورة المائدة زواج المسلم بالكتابية ـ يهودية كانت أو نصرانية. ويؤيّد ذلك تخصيص المسلمة بالنّهي عن ردّها إلى زوجها الكافر في قوله تعالى «يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ ٱلمُؤمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰت فَٱمتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّ فَإِن عَلِمتُمُوهُنَّ مُؤمِنَٰت فَلَا تَرجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلّ لَّهُم وَلَا هُم يَحِلُّونَ لَهُنَّ.. » (الممتحنة: 10)
فإن قيل إن المراد من المشرك في الآية الوثنيُّ حملا للفظ على ظاهره في لسان الشّرع أجيب بأنّ دليل التحريم هو الإجماع المستند إلى تضافر الأدلة الشرعية نحو قوله تعالى « فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ » ( الممتحنة: 10)، فناط النَّهيَ بالتحريم، وهو أعمّ من الشّرك.
وهذا الحكم ليس بدعا في الإسلام، فهو معهود في سائر الأديان فلِمَ يستغرب بعضهم من منع الإسلام تزويج نسائنا بغير المسلمين، والكاثوليكي لا يستطيع أن يتزوج بامرأة بروتستانتية وإن تجرأ على ذلك عوقب من قبل الكنيسة، والعكس صحيح! وفي قانون الأقباط الأرثوذكس المصري الصادر عام 1938م تنصّ مادته السادسة على أنَّ “اختلاف الدين مانع من الزواج ” وعليه، فإنّه لمّا كان زواج المسلمة بالكافر محرّما، فإنّه لا يترتّب عليه إن وقع ما يترتّب على الزواج بالمسلم؛ لأنّه زواج غير شرعي. وإنّ نظام الأسرة بصفة أخصّ من الزواج وشروطه والتوارث بين أفرادها لا يكتسب شرعيته إلاّ من تعاليم الإسلام المستمدّة من القرآن الكريم والسنّة المطهّرة.
وللعلم فإنّ هاتين المسألتين لم ترد فيهما نصوص كثيرة، وذلك لأنّهما وردتا بصيغ قطعية في نقلها بالتواتر المفيد لليقين، وقطعية في دلالتها على الحكم، فلم يوجد فيها اختلاف بين العلماء، ولذلك فهما معدودتان من المعلوم من الدين بالضرورة.
والمرأة التونسية المسلمة أكثر النّاس إدراكا بما تحقّقه أحكام الله تعالى لها من مصالح برعاية وضعها ونفسيتها وطاقتها، فلا أحد يكون عليها وصيا في نقض أحكام الله تعالى الواردة في شأنها، فإنّ الله تعالى هو الأعلم بما ينفعها في الدنيا والآخرة، ومن حقّها أن تعيش في ظلال ما اختاره الله لها.
والمسلم الّذي يقرأ القرآن الكريم ويقف فيه على هاتين المسألتين لا يسعه إلاّ أن يصدع بالحقّ إرضاء لله تعالى، فإنّ هذا ممّا أخذ الله تعالى الميثاق فيه على الأنبياء وأتباعهم أن يبيّنوه ولا يكتموه، ولا يجوز أن يتأوّل السكوت عنه، فإنّ الدّعوة إلى تعطيلهما منكر يجب تغييره بالقلب واللّسان معا.
ولا يسعه أيضا إلاّ أن يضرب بعرض الحائط آراء البشر، مهما كانت عمائمهم كبيرة أو مواقعهم الاجتماعية أو السياسية عظيمة.
ذلك أنّ الله تعالى أرسل رسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم لإخراج النّاس من ظلمات العقائد المهينة لعقله والشرائع المذلّة لكرامته، واستبدلهم عقيدة واضحة جلية، وشريعة عادلة قضت على شرائع الأباطرة والأكاسرة التي استعبدت الإنسان، واسترقّت روحه، وصادرت جهوده، وسامته ألوان العذَابين المادّي والنفسي.
وإنّ محاولات التغيير القديمة والحديثة للأحكام الشرعية لا تغيّر من الأمر شيئا، فالحرام في الشريعة الإسلامية يبقى حراما إلى يوم القيامة، والحلال يبقى حلالا إلى يوم القيامة، لا يغيّره عند الشعب التونسي المسلم قانون ولا مرسوم ولا فتوى مفت، كما لم يَصِر عنده التبنّي والزّنا والفطر في رمضان حلالا.
والسّلام